في تاريخ الإسلام وعلى مدار أربعة عشر قرنا برز العديد من العظماء الذين قلَّما يجود الزمان بمثلهم، قد تُعرف أسماؤهم في زماننا هذا وتُجهل أفعالهم أو تزيَّف وتشوَّه من قِبَل الإعلام الهزيل،
وتظل الحقيقة غائبة في بطون أمهات الكتب. أحد هؤلاء هو السلطان العثماني سليمان القانوني، السلطان الذي ظلمه الإعلام فوجب إجلاء الوجه الحقيقي له وإبراز أعماله الجليلة في خدمة الإسلام والمسلمين.سليمان خان هو الابن الأوحد للسلطان سليم الأول الملقب بياووز (أي الشجاع)، وقد كفل هذا للأمير الصغير تلقيه تعليما جيدا وتربية إسلامية سلطانية فائقة لكونه ولي العهد الوحيد. تولى سليمان الحكم بعد وفاة والده عام 1520م وكان والده قد أورثه خزينة سلطانية ممتلئة عن آخرها وجيشا قويا مخلصا في البر والبحر؛ مما ساعد سليمان في ردع الثورات التي قامت ضده في بداية حكمه في مصر والأناضول.
فطن السلطان سليمان القانوني إلى ضرورة تغيير بوصلة الجهاد التي عقدها والده صوب الجنوب والشرق، عندما شاهد إمبراطورية تشارلز الخامس تتوسع وتنمو لتُجهِز على الدولة الإسلامية، فاتجه سليمان بجيوشه صوب أوروبا ليكون الغرب هو وجهة معظم حملاته الحربية، فقضى هذا السلطان، الذي صوّرته الدراما على أنه زير نساء وألعوبة في أيديهم، جميع مراحل عمره تقريبا في الخروج إلى الغزوات والفتوحات، وقد استطاع سليمان أن يحجز لنفسه مكانة مرموقة بين السلاطين العثمانيين بفضل ثلاثة عشر غزوة كبرى خرج فيها بنفسه على مدار حياته، بدأها بفتح بلجراد، وانتهى بسيكتوار.
ويذكر المؤرخون أن عدد ما فتحه سليمان القانوني في حياته من الحصون والقلاع والمدن يناهز 360 حصنا، وفي عهده وصلت جيوش المسلمين إلى قلب أوروبا عند أسوار فيينا مرتين حتى أنه لُقِّب حينها بمجدد جهاد الأمة. وقد ذكر أحد المؤرخين أنه في القرن السادس عشر كان يمكن لزائر من المريخ أن يظن أن عالم البشر على وشك أن يصبح مسلما، كناية عما فعله سليمان القانوني من أجل الإسلام.
السلطان العظيم
لَعِب التطور الذي أحرزه السلطان سليمان في عهده على الصعيدين السياسي والعسكري، والذي انعكس بدوره على الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، دورا متميزا في الموازنة بين البلدان الأوروبية، وكان له إسهام قوي في تشكيل أوروبا الحديثة، حتى أن الأوروبيين كانوا يطمحون لتأسيس دولة عالمية على طراز الدولة العثمانية المترامية الأطراف في عهده، وهو الذي جعلهم، برغم خصومتهم الشديدة معه، يطلقون عليه لقب السلطان العظيم.
حضرة السلطان
ويكفي سليمان القانوني فضلا اهتمامه البالغ بالدولة الإسلامية السنية في مواجهة الدولة الصفوية الشيعية، التي كانت بدورها قد بدأت في إقامة تحالفات مع النمسا والإمبراطورية الرومانية، وقامت بعقد المؤامرات لتأليب عدد من البكوات في الأناضول ضد الدولة العثمانية، الأمر الذي جعل سليمان يحشد جيوشه ضد الصفويين، ودخلت الجيوش السنية بقيادة الصدر الأعظم إبراهيم باشا مدينة تبريز ظافرة، ولم يملك الشاه الصفوي طهماسب إلا الفرار إلى داخل بلاد فارس. إلا أنه من الجدير بالذكر أن الشاه طهماسب كان لا يذكر سليمان إلا بقوله "حضرة السلطان"، رغم العداء الشديد بينهما، وكان يبرر ذلك بأنه معجب كثيرا بغزواته الناجحة، وأنه يعتبره بيرق الغزاوت في الغرب.
لماذا لقِّب بـالقانوني؟
ويحسب له أيضا تعيينه للمعماري العظيم سنان باشا، الذي يعد واحدا من أعظم المعماريين في تاريخ العالم. وشهد عهد سليمان الطويل، الذي دام ستة وأربعين عاما، قمة ازدهار الفنون والثقافة العثمانية، وانتشرت حركة الإعمار والبناء في الولايات العثمانية على مدى اتساعها، ولا شك أن أكبر مشروعاته هي تلك التي تمَّت في الأراضي المقدسة، فقد أمر بترميم المسجد الأقصى وجامع قبة الصخرة في القدس والحرم المكي، فشيِّدت الملاجئ لاستضافة الحجاج وأنشئت الحمامات العامة. كما قام بتحصين الأسوار القائمة حول المدينة المنورة لحمايتها من قطَّاع الطرق، بالإضافة لترميمات واسعة في المسجد النبوي، واتخذ إجراءً يعتبر الأول من نوعه، حيث أوقف مبلغا سنويا لأجور الأشخاص الذين يخدمون في الحرم، وغيرها من الخدمات الجليلة الأخرى.
لقد اكتسب سليمان لقب "القانوني"، الذي اشتهر به واقترن باسمه، نظرا للقوانين التي وضعها لتنظيم الحياة في دولته الكبيرة، وكان شديد الحرص على اتفاق تلك القوانين مع الشرعية الإسلامية، وإجلالا لمساهماته التي لا يستطيع أحد إنكارها، فإن هناك نقشا غائرا يزين مجلس النواب الأمريكي وهو واحد من النقوش الثلاثة والعشرين التي تكرم سانِّي القوانين عبر التاريخ.
بشكل يليق بعظمة سلطان قضى عمره في الجهاد في سبيل الله ونصرة الإسلام، سلطان جاب العالم كله فاتحا حتى استحق عن جدارة لقب سلطان العالم.